مكر الله ونجاح المؤمنين

يمكرون والله خير الماكرين: تحليل شامل للآية ومضمونها العميق في القرآن الكريم

تُعدّ الآية القرآنية الكريمة: “يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ” من الآيات التي تحمل في طياتها معاني عظيمة وعبرًا عميقة، فهي تتكرر في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، وتحتوي على رسالة ربانية سامية توضح علاقة الإنسان بالخطة الإلهية وكيفية تعامل الله سبحانه وتعالى مع مكائد البشر. هذه العبارة ليست مجرد جملة تعبر عن الصراع بين مكر البشر ومكر الله، بل هي تعبير عن عدل الله وحكمته المطلقة في إدارة الكون والأحداث.

موقع الآية وتكرارها في القرآن الكريم

هذه الآية وردت في سور متعددة، منها: سورة آل عمران (آية 54)، وسورة الأنفال (آية 30)، وسورة يوسف (آية 54)، وكل موضع من هذه المواضع يحمل سياقًا مختلفًا يعزز المعنى العام للمكر الإنساني ومقابلته بمكر الله العظيم.

• في سورة آل عمران، تأتي الآية ضمن الحديث عن مكائد الكفار والمنافقين الذين حاولوا الإيقاع بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، لكنها تختم بالتأكيد على أن الله هو الأفضل في المكر، حيث يخطط بمكر أسمى وأكمل.

• في سورة الأنفال، تأتي الآية في سياق المعركة، حيث يتحدث الله عن مكائد الكفار لقتل النبي أو إخافته، لكنه يطمئن المؤمنين بأن الله سيحول مكائدهم ضدهم.

• في سورة يوسف، تحكي الآية قصة مكائد إخوته الذين أرادوا التخلص منه، وكيف أن الله كان أذكى منهم، وأدار الأمور لصالح يوسف عليه السلام.

معنى المكر في اللغة والشرع

كلمة “مكر” في اللغة العربية تعني الخداع، التخطيط السري، والمكر هو استعمال الذكاء والدهاء لتحقيق غاية ما. ولكن في الشريعة الإسلامية، المكر يحمل دلالة خاصة تختلف باختلاف نية الفاعل:

• مكر شرير: وهو ما يقوم به الظالمون والكفار والمنافقون في إلحاق الأذى بالآخرين، وإحداث الشر والخداع لتحقيق مصالح شخصية ضيقة أو إفساد.

• مكر حكيم: وهو مكر الله الذي لا يُقصد به شر، بل هو حكمته في تدبير الأمور، وبأسلوب يرفع الظلم ويبدد مكائد الظالمين.

الله سبحانه وتعالى هو خير الماكرين؛ أي أن مكره أسمى وأكمل من مكر البشر، فهو يدبر الأمر بحكمة لا يعجزها شيء في السماوات والأرض، وهو القادر على كشف المكائد وإبطالها وتحويلها لصالح المظلومين والمؤمنين.

مقاربة فلسفية ووجودية لمفهوم المكر

مفهوم المكر في القرآن لا ينحصر في مستوى دنيوي بسيط، بل يمتد إلى مستويات وجودية وفلسفية عميقة:

• هو تعبير عن الصراع الأزلي بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين العدل والظلم.

• مكر البشر رغم قوته في بعض الأحيان، محدود بزمنهم وضعفهم، لكن مكر الله أزلي، مطلق، ومحكم، يحيط بكل شيء ولا يعجزه شيء.

• هذه الآية تؤكد على أن الإنسان مهما خطط وسعى لإلحاق الضرر بالآخرين، فإن خططه ستُرد وتُحبط بعناية الله التي تدير الكون.

آيات أخرى تدعم مفهوم “خير الماكرين”

تدعم العديد من الآيات القرآنية هذا المفهوم، منها قوله تعالى في سورة الفلق:

“وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ”

وهذا يدل على وجود الشرور والمكائد، ولكن مع وعود الرب بالحماية والإبطال.

أيضًا في سورة يوسف، نجد كيف أن مكائد إخوته ومؤامراتهم لم تمنع الله من تحقيق الغاية الإلهية التي تتعلق بنجاة يوسف ورفع مكانته.

دراسة مقارنة بين مكر الإنسان ومكر الله

دروس مستفادة من آية “يمكرون والله خير الماكرين”

1. الثقة بحكمة الله: يعلم المؤمن أن كل مكر يحاك ضده من قبل أعدائه مهما كان قوياً، فإن الله أعظم مكرًا وأكفأ في تدبير الأمور.

2. اليقظة وعدم الاستسلام: على الرغم من الثقة بالله، يجب أن يكون الإنسان واعيًا لما يحيك له، فلا يكون سلبيًا أو مستسلمًا بل متيقظًا وحذرًا.

3. الابتعاد عن المكر الشرير: المكر الذي يقصد به الضرر والظلم لا يقره الإسلام، بل يدعو إلى العدل والرحمة والتعامل بالحسنى.

4. التفاؤل والرضا بالقضاء: إيمان المؤمن بأن الله هو الذي يدير شؤون الكون، وأن الظلم لا يدوم، وأن الله سيجعل من مكر أعدائه سببًا في نصره ورفعته.

مواقف تاريخية وشواهد على تطبيق مفهوم المكر الإلهي

في التاريخ الإسلامي، كثير من الأحداث التي تعكس هذه الآية على أرض الواقع، ومنها:

• مكر المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: حيث خططوا لقتله ووأد دعوته، لكن الله حمى نبيه وأخفق مخططاتهم.

• قصة النبي يوسف عليه السلام: إذ مكر إخوته به وطرحوه في البئر، لكن الله مكر بهم وحفظ يوسف حتى صار ذو سلطان عظيم.

• معركة بدر: حيث حاول المشركون إحباط المسلمين، لكن الله خطط لصالح المؤمنين وانتصرت جيوش الإسلام.

• مكر فرعون: مكر بقتل الأطفال الإسرائيليين، لكنه فشل أمام تدبير الله في حماية النبي موسى وقومه.

المكر في سياق العدل الإلهي والتدبير الحكيم

الله لا يستعمل المكر إلا للحكمة والعدل، فهو لا يظلم أحدًا، ولم ترد آية واحدة تدل على أن الله يستخدم المكر لإيقاع الضرر بالمؤمنين، بل يستخدمه لإبطال مكر الظالمين. وهذا يدل على أن المكر في الشرع الإلهي لا يقاس بمفهومه الدنيوي فقط، بل هو تدبير عادل يحفظ المظلومين وينصرهم.

أثر فهم هذه الآية في بناء شخصية المؤمن

فهم آية “يمكرون والله خير الماكرين” يعزز لدى المؤمن:

• الثقة بالله وعدم الخوف من المؤامرات.

• الصبر والثبات على الحق.

• الاجتهاد في مواجهة الظلم والشر.

• الإدراك بأن مع كل مكيدة شريرة هناك حكمة إلهية سامية.

خاتمة

في ضوء ما تقدم، فإن آية “يمكرون والله خير الماكرين” ليست مجرد تعبير قرآني تقليدي، بل هي مصدر قوة للمؤمنين، وتذكير دائم بأن الله سبحانه وتعالى متفوق على كل مكر بشري بحكمته وعدله وقدرته التي لا تُحد. إن هذه الآية تُجسد الصراع الأزلي بين الخير والشر، وتؤكد على أن التدبير الإلهي هو الأسمى، وهو الضامن الحقيقي للنصر والعدل في الكون.

المصادر والمراجع

1. القرآن الكريم، تفسير ابن كثير، دار الفكر، بيروت.

2. تفسير الطبري، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، مكة المكرمة.